ضوء النهار الأول

محمود فهد
المؤلف محمود فهد
تاريخ النشر
آخر تحديث

 

ضوء النهار الأول

 في تلك اللحظات الأولى من الصباح، عندما يتسلل ضوء النهار بهدوء عبر النافذة المفتوحة، تبتدئ الذكريات بالاستيقاظ كما يستيقظ الفجر على صفحة الماء الهادئة. يتدفق النور برقة، يعانق أطراف المائدة التي كانت شاهدة على العديد من الأحاديث والأسرار التي لا يعرفها سوى من عاش تلك اللحظات.

  هذه المائدة الصغيرة المغطاة بمفرش بسيط، تحمل فوقها آثار وجبة إفطار استعدت لتكون بداية ليوم جديد. 

 هنا كان يجلس أبي، يحتسي قهوته ببطء بينما يتصفح الصحيفة، ينظر من حين لآخر عبر النافذة وكأنه يحاول الإمساك بآخر خيوط الليل قبل أن تتلاشى في ضوء النهار. وعلى الجهة الأخرى كانت أمي، مشغولة بتجهيز ما يلزم للعائلة، وجهها يحمل ابتسامة صباحية لا تتغير، وكأنها قد أبرمت عقداً مع هذا الصباح لتكون فيه دائماً مشرقة، مضيئة كأشعة الشمس الأولى.

  أما إخوتي، فقد كانوا يملؤون المكان بالحركة والحديث، صوتهم كان يشبه زقزقة العصافير التي تعزف سيمفونية الفجر. كل واحد منهم لديه طريقة خاصة في استقبال الصباح، منهم من كان يبتسم دون سبب، ومنهم من كان يمزج الصمت مع نظرات تأمل في الأفق البعيد.

  كان هذا الوقت هو الوقت الذي تتلاقى فيه الأرواح في انسجام تام، حيث لا مكان للضجيج أو القلق، فقط هدوء وسكينة يغمر القلوب. كانت لحظاتنا الصباحية مقدسة، تشبه صلاة في محراب الحياة، تجمعنا كل يوم حول تلك المائدة، نبدأ بها رحلة جديدة نحو الأمل أوالعمل و المدرسة.

 في تلك الأيام، كان ضوء النهار الأول يحمل معه وعوداً لا تنتهي، وعوداً بحياة بسيطة، مليئة بالحب والحنان. كان هذا الضوء يفتح لنا أبواباً نحو يوم جديد، يحمل بين طياته فرصاً جديدة لنعيش ونتعلم ونتواصل مع بعضنا البعض.

 اليوم، عندما أنظر إلى تلك الصورة، أسترجع كل تلك اللحظات التي كانت تضج بالحب والدفء. أسترجع ملامح أبي وهو يمسك بفنجان قهوته، وصوت أمي وهي تنادي علينا لتناول الإفطار. أسترجع ضحكات إخوتي وصخبهم الطفولي الذي كان يملأ المكان بالحياة.هي ذكريات لا يمكن أن يمحوها الزمن، لأنها محفورة في قلبي كالنقش على الحجر. 

 ذكريات تبقى حية، تنبض بالحياة كلما تسللت أولى خيوط الشمس إلى غرفتي، لتذكرني بأن هذه اللحظات هي التي شكلتني، وأنها كانت بداية كل يوم جميل، في ظل دفء العائلة وضوء النهار الأول.

تعليقات

عدد التعليقات : 0